فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يقول تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ..} [يونس: 2]
وفي موضع آخر يقول سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلًا أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ * قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} [يس: 13-15]
إذن: فاعتراضهم على بشرية الرسول أمر قديم توارثه أهل الكفر والعناد من أيام نوح- عليه السلام- ألم يَقُلْ له قومه: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا..} [هود: 27]
وقالوا: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34]
وقالوا: {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24]
لذلك يدعونا الحق سبحانه وتعالى إلى النظر في السُّنة المتبعة في الرسل: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ..} [النحل: 43]
أي: ليسوا ملائكة، لابد أنْ يكونوا رجالًا لِيتمّ اللقاء بينكم، وإلاّ فلو جاء الرسول مَلَكًا كما تقولون، هل ستروْن هذا الملَك؟ قالوا: لا هو مُستتر عنَّا، لكنه يرانا، لكن تبليغ الرسالة لا يقوم على مجرد الرؤية، فتبليغ الرسالة يحتاج إلى مخالطة ومخاطبة، وهنا لابد أنْ يتصوّر لكم الملَك في صورة رجل ليؤدي مهمة البلاغ عن الله، وهكذا نعود من حيث بدأنا؛ لأنها الطبيعة التي لا يمكن لأحد الخروج عنها.
لذلك يقول سبحانه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] إذن: لا داعي للتمحُّك والعناد، ومصادمة الفطرة التي خلقها الله، والطبيعة التي ارتضاها لخَلْقه.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولًا}.
{قُلْ} أي: رَدًَّا عليهم: لو أن الملائكة يمشون في الأرض مطمئنين لَنزَّلنا عليهم مَلَكًا رسولًا لكي يكون من طبيعتهم، فلابد أنْ يكون المبلِّغ من جنس المبلَّغ، وهذا واضح في حديث جبريل الطويل حينما جاء إلى رسول الله يسأله عن بعض أمور الدين لِيُعلم الصحابة: ما الإحسان؟ ما الإيمان؟ ما الإسلام. فيأتي جبريل مجلس رسول الله في صورة رجل من أهل البادية، وبعد أنْ أدَّى مهمته انصرف دون أنْ يشعر به أحد، فلما سألوا عنه قال لهم رسول الله: «إنه جبريل، أتاكم لِيُعلِّمكم أمور دينكم».
شيء آخر يقتضي بشرية الرسول، وهو أن الرسول أسوة سلوك لقومه، كما قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..} [الأحزاب: 21]
وبالله، كيف تتم هذه الأسوة؟ وكيف يقتدي الناس بها إنْ كان الرسول مَلَكًا؟ فالرسول عندما يُبلِّغ منهج الله عليه أنْ يُطبّق هذا المنهج في نفسه أولًا، فلا يأمرهم أمرًا، وهو عنه بِنَجْوَة، بل هو إمامهم في القول والعمل.
لذلك فالحاكم الحق الناصح يُطبّق القانون عليه أولًا، فكان سيدنا عمر- رضي الله عنه- إذا أراد أن يُقنّن قانونًا ويرى أنه سيتعب بعض الظالمين والمنحرفين فيجمع أهله ويخبرهم بما أراد، ثم يُحذّرهم من المخالفة: فو الذي نفسي بيده، مَنْ خالفني منكم إلى شيء لأجعلنّه نكَالًا للمسلمين، وأنا أول مَنْ أُطبِّقه على نفسي.
لذلك حكم عمر الفاروق الدنيا كلها في عصره، ولما رآه الرجل نائمًا مطمئنًا تحت شجرة قال قولته المشهورة: حكمتَ، فعدلْتَ، فأمنت، فنمْتَ يا عمر وعمر ما حكم الدنيا والبشر، بل حكم نفسه أولًا فحُكمت له الدنيا؛ لأن الحاكم هو مركز الدائرة، وحَواليْه دوائر أخرى صغيرة تراه وتقتدي به، فإنْ رأوه مستقيمًا استقاموا، ولم يجرؤ أحد منهم على المخالفة، وإنْ رأوْه منحرفًا فاقوه في المخالفة، وأفسدوا أضعاف ما يُفسد.
لذلك، لا يمكن أبدًا لحاكم أن يحكم إلا إذا حكم نفسه أولًا، بعدها تنقاد له رعيته ويكونون طوعًا لأمره دون جهد منه أو تعب.
ولقد رأينا في واقعنا بعض الحكام الذين فهموا الأُسْوة على حقيقتها، فترى الواحد من رعيته يركب أفخم السيارات، ويسكن أعظم القصور، حتى إن معظم أدواتها تكون من الذهب، في حين ترى هذا الحاكم يعيش عيشة متواضعة وربما يعيش في قصر ورثه عن أبيه أو جَدَِّه، وكأنه يُغلِظ على نفسه ويبغي الرفاهية لرعايته.
وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتى بمنهج، وهو في الوقت نفسه أُسْوة سلوك وقُدْوة، فنراه صلى الله عليه وسلم يحثّ الغنيّ على الصدقة للفقير، ثم يحرم أهل بيته من هذه الصدقة فلا يقبلها لهم، وإنْ توارث الناس فيما يتركونه من أموال فإن ما تركه الرسول لا يُوَرَّثُ لأهله من بعده، بل هو صدقة لفقراء المسلمين، وهكذا يحرم رسول الله أهل بيته مما أعطاه للآخرين لتكون القدوة صحيحة، ولا يجد ضعاف النفوس مأخذًا عليه صلى الله عليه وسلم.
إذن: فليس المراد من الحكم أن يتميز الحاكم عن المحكوم، أو يفضل بعض الرعية على بعض، فإذا ما أحسَّ الناس بالمساواة خضعوا للحاكم، وأذعنوا له، وأطاعوا أمره؛ لأنه لا يعمل لمصلحته الشخصية بل لمصلحة رعيته، بدليل أنه أقلُّ منهم في كُلِّ مستويات الحياة.
فالرسول إنْ جاء مَلَكًا فإن الأُسْوة لا تتمّ به، فإنْ أمرنا بشيء ودعانا إلى أن نفعل مثله فسوف نحتجّ عليه: كيف وأنت مَلَكٌ لا شهوةَ لك، لا تأكل ولا تشرب ولا تتناكح ولا تتناسل، إن هذه الأوامر تناسبك أنت، أما نحن فلا نقدر عليها.
ومن هنا لابد أن يكون الرسول بشرًا فإنْ حمل نفسه على منهج فلا عُذْر لأحد في التخلُّف عنه؛ لأنه يطبق ما جاء به ويدعوكم إلى الاقتداء بسلوكه.
وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلًا وقُلْنا: هَبْ أنك رأيتَ في الغابة أسدًا يصول ويجول ويفتك بفريسته، بالله هل يراودك أن تكون أسدًا؟ إنما لو رأيتَ فارسًا على صَهْوة جواده يصول ويجول ويحصد رقاب الأعداء، ألاَّ تتطلع إلى أن تكون مثله؟
إذن: لا تتمّ القُدْوة ولا تصح إلا إنْ كان الرسول بشرًا، ولا داعي للتمرُّد على الطبيعة التي خلقها الله.
ثم يقول الحق سبحانه: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا...}.
{قُلْ} أي: رَدًّا على ما اقترحوه من الآيات وعلى اعتراضهم على بشرية الرسول: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ..} [الإسراء: 96]
والشهيد إنما يُطلَب للشهادة في قضية ما، فما القضية هنا؟ القضية هي قضية تعنُّت الكفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم طلبوا منه مَا ليس في وُسْعه. والرسول لا يعنيه المتعنتون في شيء؛ لأن أمره مع ربه عز وجل؛ لذلك قال: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا..} [الإسراء: 96]
فإنْ كانت شهادة الشاهد في حوادث الدنيا تقوم على الإخبار بما حدث، وعليها يترتب الحكم فإن شهادة الحق سبحانه تعني أنه تعالى الشهيد الذي رأى، والحاكم الذي يحكم، والسلطة التنفيذية التي تنفذ.
لذلك قال: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا..} [الإسراء: 96]
فهو كافيك هذا الأمر؛ لأنه كان بعباده {خَبِيرًا} يعلم خفاياهم ويطّلع على نواياهم من وراء هذا التعنُّت {بَصِيرًا} لا يخفي عليه شيء من أمرهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94] وفي سورة الكهف: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [الكهف: 55]، فورد في الثانية: {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} ولم يرد في الأولى، فيسأل عن ذلك؟
والجواب، والله أعلم: أن الآية الأولى تقدمها قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]، فقوله تعالى مخبرًا عن عتاة قريش: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90] إلى الثامنة من مقتراحاتهم، وهي تمنيهم تنزل كتاب يقرؤونه، فبالغوا في شنيع اقتراحاتهم، وتوغلوا في مطالبهم المفصحة باليأس {من} فلاحهم، فحصل من جملة حالهم بعدهم عن الإنابة إلى الإيمان، فلم يكن ذكر الاستغفار ليناسب هنا، لأنه إنما يكون مما لا يبلغ الكفر من المعاصي، هذا الغالب في وروده، أما حيث يفصح بالكفر فليس موضع ورود الاستغفار، ولما كان المتقدم قبل آية الكهف لا يبلغ مبلغ الآية المتقدمة في الإفصاح بتمردهم وعتوهم ناسبه ذكر الاستغفار، ألا ترى أن قوله تعالى قبل آية الكهف: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]، وليس قوله فيها: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} في قوله في آية الإسراء: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]، لأن الجدال لا يلزم منه أن يكون مرتكبه كافرًا، وإنما مظنة الجدال التناظر في الطرفين والاحتجاج بمتقابل المذهبين إلى ما يرجع إلى هذا، وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، والمراد بذلك ملاطفتهم في الاحتجاج عليهم والصبر والتحمل لما عسى أن يكون منهم.
فلما كان الوارد في آية الكهف من وصف حالهم لا يبلغ مبلغ الوارد في آية الإسراء ورد فيه ذكر الاستغفار موازنه للين ما بني عليه من الإخبار بكثرة جدالهم، إذ ليس كالوارد في الآية الأخرى من الإفصاح بكفرهم وسوء حالتهم، ولم يناسب آية سورة الإسراء أن يرد فيها ذكر الاستغفار، وإن كان حال المحكي عنهم في الآيتين غير مفارق للكفر ولا نازح عنه حال الإخبار، وقد تقدم هذا في أول آية من هذه السورة، ولكن تناسب النظم في الشدة واللين مراعى معتمد، فجاء كل على ما يجب، والله سبحانه أعلم بما أراد. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)}.
تعجَّبوا مما ليس بمحلِّ شُبهة، ولكن حَمَلَهم على ذلك فَرْطُ جَهْلِهم، ثم أصَرُّوا على تكذيبهِم وجحدهم.
{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)}.
الجنسُ إلى الجنسِ أميلُ، والشكلُ بالشكلِ آنَسُ، فقال سبحانه لو كان سكانُ الأرضِ ملائكةُ لَجَعَلْنا الرسولَ إليهم مَلَكًا، فلمَّا كانوا بَشَرًَا فلا ينبغي أن يُسْتَبَعدَ إرسالُ البشرِ إلى البشرِ.
{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)}.
الحقُّ سبحانه هو الحاكم وهو الشاهد، ولا يُقَاسُ حُكْمَه على حُكْم الخَلْق، ولا يجوز في صفةِ المخلوقِ أَن يكونَ الحاكمُ هو الشاهد، فكما لا تشبه ذاته ذات الخَلْقِ لا تشبه صفتُه صفةَ الخَلْق. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا}:
هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} ,
ووجه الجمع أن الحصر في آية الإسراء حصر في المانع العادي والحصر في آية الكهف في المانع الحقيقي.
وإيضاحه: هو ما ذكره ابن عبد السلام من أن معنى آية الكهف وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن الله أراد أن تأتيهم سنة الأولين من أنواع الهلاك في الدنيا أو يأتيهم العذاب قبلًا في الآخرة، فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي مراده فهذا حصر في المانع الحقيقي لأن الله هو المانع في الحقيقة.
ومعنى آية سبحان الذي أسرى أنه ما منع الناس من الإيمان إلا استغرابهم أن الله يبعث رسولا من البشر واستغرابهم لذلك ليس مانعا حقيقيا بل عاديا يجوز تخلفه فيوجد الإيمان معه بخلاف الأول فهو حقيقي لا يمكن تخلفه ولا وجود الإيمان معه.
ذكر هذا الجمع صاحب الإتقان، والعلم عند الله تعالى. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}.
أخرج ابن إسحق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن سيحان ونعيمان بن أُصَي ومجزئ بن عمر وسلام بن مشكم فقالوا: يا محمد، هذا الذي جئت به حق من عند الله؟ فانا لا نراه متناسقًا كما تتناسق التوراة. فقال لهم: أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله قالوا: انا نجيئك بمثل ما تأتي به. فأنزل الله {قل لئن اجتمعت الإنس والجن} الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج رضي الله عنه في قوله: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن...} الآية. قال: يقول: لو برزت الجن وأعانهم الإنس فتظاهروا، لم يأتوا بمثل هذا القرآن.
{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)}.
أخرج ابن جرير وابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا البختري- أخا بني أسد- والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهًا ومنبهًا ابني الحجاج السهميين، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه: أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعًا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء، وكان عليهم حريصًا يجب رشدهم ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنعذرك، وإنا والله.. ما نعلم رجلًا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة، فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا؛ وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا؛ وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك- وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي- فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون.. ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا فيئكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولًا وأنزل عليَّ كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم.. فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة؛ وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. فقالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادًا ولا أقل مالًا ولا أشد عيشًا منا، فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخًا صدوقًا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك، صدقناك وعرفنا به منزلتك من عند الله، وإنه بعثك رسولًا.